تخطى إلى المحتوى

الفصل الأول – بداية الوعي

بداية الوعي

الوعي كتعريف مبسط: هو الإحساس أو الدراية بالوجود الداخلي والخارجي. ورغم آلاف السنين من التحليلات والتعاريف والتفسيرات والمناقشات بين الفلاسفة والعلماء، ما يزال الوعي أمراً محيراً ومثيراً للجدل كونه أكثر الجوانب أُلفة وأكثرها غموضاً في حياتنا.

سأغوص في أعماق ذاكرتي محاولاً الوصول إلى أعمق نقطة بدأي فيها الوعي أو الإدراك الحسي لدي. من حسن حظي أننا كنا ننتقل من بيت إلى آخر في فترات متفرقة من طفولتي تساعدني في تقدير الفترة الزمنية. بحسب تقديري كنت أبلغ من العمر 4 سنوات بطبيعة الحال وقتها ليس لدي كامل الإدراك والوعي بما يحدث حوالي، لكني أستطيع أتذكر بعض المَشاهد الغير المترابطة. أتذكر وكأنني بدأت فجأة في محاولة إدراك عالمي الخاص دون وجود أي مخزون في الذاكرة يساعد على تعريف عناصر هذا العالم.

الوعي بالأماكن: أتذكر الشعور الغريب نظراً لأننا انتقلنا إلى بيت جديد يختلف تقسيم وترتيب الغرف فيه، سجاد بلون مختلف لا أستطيع تذكر لونه بالتحديد ولكني أزعم أنه لونه أزرق ويحتوي على نمط متكرر فيه. غرفة الجلوس وأثاثها البسيط بالكراسي المنخفضة كما كانت عليه الموضة في ذلك الوقت، بيت جيراننا وأثاثه المختلف. أتذكر الدكان القريب من بيتنا والمخبز كذلك ولكن بدرجة أكبر، أتذكر أنني كنت أحدق في وجوه الخبّاز ومن يعملون بالمخبز لأنهم من الجنسية الأفغانية أو الباكستانية ولم يسبق لي أن شاهدت أناس بملامح مشابهة لهم ويرتدون تلك الملابس. بشكل عام كان كل شيء وكأنه جديد تماماً وهنا كانت المتعة.

الوعي بالأصوات والذاكرة السمعية: أتذكر صوت إذاعة الراديو في الصباح، برامج إذاعية بصوت أنثوي رخيم وصوت ذكوري آخر مشابه. ويتخللها فواصل موسيقية (حتى الآن لم أستطع تحديد أي إذاعة كانت)، لم أكن أميز محتوى تلك البرامج الإذاعية ولكنها رسخت لأنني كنت أسمعها بشكل يومي في الصباح عنما تكون والدتي بتجهيز أختي لمدرستها. أتذكر أيضاً نشرات الأخبار المسائية في القناة الأرضية الأولى، كانت الحرب في البوسنة والهرسك على أوجها وكان والدي مهتم بمتابعة تلك النشرة وتقارير الحرب في البوسنة والهرسك. وأتذكر ظهور كوفي عنان وبيل كلينتون بشكل متكرر في تلك النشرات.

أتذكر أيضاً بداية قدرتي على التعرف على الأشخاص ولكن دون القدرة على تحديد صلة القرابة، أتذكر أن ابنة عمتي كانت تسكن على مسافة دقائق من بيتنا وأن والدي كان يصطحبني كثيراً معه إلى بيتهم وكنت أقضي وقت طويلاً مع أبنائها دون أدنى فكرة عن صلة القرابة، كنت أسمعهم ينادون والدي بـ(جدي) لماذا لا أعرف، الصدمة كانت عندما أتت امرأة كبيرة بالعمر نوعاً ما كانت في بيتهم وأتت وقضت بعض الوقت في بيتنا، وكنت طوال الوقت أعرّف تلك المرأة بـ(جَدَّة إبراهيم وهشام)، أتذكر أنني كنت أردد تلك التسمية إلى أن سمعني والدي وضحك وصحح لي قائلاً: تلك المرآة تكون أختي وهي عمتك، أتذكر شعور الدهشة حينها ومحاولة الاستيعاب.

أتذكر بداية تعلمي للحروف في تلك الفترة، حيث اشترى والدي لوح كبير من المكتبة المجاورة لمنزلنا، يحتوي على حروف الهجاء العربية ووجود صور حيوانات تحت كل حرف، لا أتذكر أنني واجهة أي صعوبة في تعلم الحروف، ربما فقط وجدت صعوبة بين حرفي السين والشين وحرفي الضاد والظاد، عدا ذلك شعرت أن المهمة سهلة.

في ذلك العمر لا أستطيع تذكر إلا تلك المَشاهد البسيطة دون القدرة على ترتبيها زمنياً. لكن الأكيد أن الوعي لدى الإنسان مترابط بشكل أو بآخر حتى إن لم تسعفنا ذاكرتنا بتحديد نوع الترابط وتأصيله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *